بقلم: نجوان حكمت
ليست الانتخابات موسمًا سياسيًا فحسب، بل لحظة أخلاقية تواجه فيها الأمة نفسها دون أقنعة. ما يبدو على السطح تجمّعًا للناس حول صناديق الاقتراع، ليس إلا مشهدًا ظاهرًا لحدث أعمق بكثير؛ إنّه الامتحان الذي يختبر فيه الوطن ذاكرته وإيمانه وقدرته على تخيّل المستقبل.
حين تقترب الانتخابات، تنشط الألسنة وتتحرك الشعارات، لكن ما يتحرك في الصمت أعمق بكثير من الكلام. في الداخل، في تلك البقعة التي لا يصل إليها ضجيج المنابر، يقف كل فرد أمام سؤال واحد لا يمكن الهروب منه:
أيّ وطن أريد؟
هذا السؤال قد يبدو بسيطًا، لكنه لا يُجاب عنه بالكلمات، بل يُجاب عنه بالفعل. والورقة التي يضعها الناخب في الصندوق ليست ورقة. إنّها اعتراف. اعتراف بأنه اختبر الألم والفقر والأمل والحسرة، وأنه على الرغم من ذلك، ما زال يريد مستقبلًا يشبه الحياة لا البقاء فقط.
هناك شعوب تذهب إلى الانتخابات لأنها تخاف سقوط الدولة، وهناك شعوب تذهب لأنها تبحث عمّن يحمل أحلامها. وما بين الخوف والحلم تتشكل الهوية السياسية للأمم.
السياسة ليست صراعًا على الكراسي كما يظن السطح، بل صراع بين صورتين للإنسان:
إنسان يريد أن يعيش لأن الحياة حق، وإنسان يريد أن يحكم لأن الحكم رغبة.
الانتخابات لا تكشف الأقوى سياسيًا، بل تكشف الأكثر حضورًا في ذاكرة الناس. الإنسان لا يمنح صوته لمن يقنعه بالكلام فقط، بل يمنحه لمن يستطيع أن يتلمس جرحه دون أن يُشهِر الملح فوقه. السياسة التي لا تعرف الجرح الإنساني تتحول إلى إدارة بلا روح.
حين نقول “صوتك أمانة”، لا نعني أمانة تجاه المرشح، بل تجاه الذات. إن الإنسان حين يفقد القدرة على اختيار ما يناسبه، يفقد جزءًا من قدرته على أن يكون إنسانًا كاملًا. الحرية ليست صراخًا في الشارع، الحرية هي تلك اللحظة الصغيرة التي يضع فيها الفرد ورقته في الصندوق وهو يعرف أنه اختار لأنه يريد، لا لأنه خاف أو اتّبع.
تاريخ الأمم لا يُكتب بأسماء القادة فقط. يُكتب بالأيدي التي وضعت الأوراق في الصناديق.
تُكتب حكاية شعب كان يمكن أن يستسلم، لكنه قرر أن يفكر. وتُكتب حكاية شعب آمن أن المستقبل لا يُوهب، بل يُصنع.
ربما ينهض الوطن بمرشح واحد، وربما لا ينهض، لكن الأهم من النهوض نفسه هو أن تتعلم الأمة كيف تفكر، وكيف تعي أنها لا تختار شخصًا بل تختار شكل الحياة التي ستعيشها.
الوطن ليس صورة معلقة على جدار، ولا علمًا يرتفع في ساحة. الوطن مدى داخلي. إذا اتسع ضاق كل ظلم. وإذا ضاق صارت أجمل المدن سجناً واسعاً.
من هنا نفهم أن الانتخابات ليست اختبارًا للدولة، بل اختبار لروح الشعب.
وفي النهاية، حين تنتهي الضوضاء ويعود كل شيء إلى صمته الأول، يبقى السؤال وحده مفتوحًا كنافذة لا يراد لها أن تغلق:
هل اخترنا بما يكفي من الوعي، أم أننا اكتفينا بأن نكون جمهورًا؟
الوطن لا ينتظر الإجابة في يوم واحد.
الوطن ينتظرها في شكل الحياة التي سنصنعها بعد ذلك اليوم.
لأن الأمة حين تقف أمام صندوق الاقتراع، فهي لا تختار أشخاصًا، بل تختار صورتها في الغد.
107 2 دقائق




