بقلم: زهراء الزبيدي
من النافذة، حيث تشاهد كل شيء، لكنك لم تلمسه أبداً. كان المكان محملاً بغبار الإطارات المشتعلة، والصدر لا يتسع للهواء، حتى الهواء كان يعانق الحرية. كنت أمسك يد أمي بقوة، ولا أريد أن أفلتها أبداً من شدة الضوضاء. الكل كان منتظراً أو يعانق من غاب عنه سنين طويلة، على أطلال السجن، ويدي الأخرى كانت تحمل الكيس الأسود.
السجن كان عملاقاً للغاية؛ اقتحمناه أنا وأمي ومن معنا بعد أن بحثنا عنه كأننا نبحث عن واحدٍ في وسط جبال لا مثيل لها. السجن مصمّم بطريقة معقدة: طوابق داخل الأرض وأخرى تحتها، تربطها ممرات ملتوية تتجمع في نقطة سُمّيت “المسدس”، حيث تتقاطع العديد من المعابر. الزنازين مبنية من أسمنت سميك مصبوغ بالأحمر، وكأن كل جدار يهمس بأصوات من لم يعد لهم أثر، وكل صدى يكرر أسمائهم كذكرى مؤلمة تطاردنا في كل زاوية. كان السجن عبارة عن ثلاثة أجنحة، يمين ويسار. كل جناح يحتوي على أكثر من مهجع.
كانت أمي تضغط على يدي، ولا تريد أن تفلت أملاً بلقاء أبي، وفي يدي الأخرى الكيس الذي يحتوي حذاء أبي، آخر ما ارتداه قبل أن يذهب إلى هنا؛ أحافظ عليه كسلعة ثمينة، أخاف أن ينكسر وسط ضجيج السجن. الضوضاء كانت تتسلل معها خيوط الأمل في قلوبنا أنا وأمي. بحثنا عنه في كل مكان، ولم نجد أي أثر، حتى الكلمات المكتوبة على الجدران لم تكن دليلاً على وجود أبي، وحروفه لم تتبقَ. لكنها كانت تهتف بصوت خافت: حاولنا البقاء هنا، حاولنا الصمود، وحين كنا نرى الزوايا الفارغة، كأنها تهمس: لم يبقَ أحد. بقيت زنزانة تحت الأرض؛ انحنت أمي ماسكة بي، وأنا أمسك الكيس. حاولت أن تقوى وتمسك دموعها، لكنها لم تستطع؛ عيناها تنزف من شدة الألم.
لم نعثر على شيء داخل الزنزانة سوى مذكرات وأسماء من ماتوا تحت الأرض. وجدت نعلًا يشبه قياس أبي عند أحدهم، لكنه أكبر برقم. لم نجد شيئاً أبداً. رجعنا أنا وأمي نحمل حذاء أبي في أذرعنا، وصدورنا تمتلئ بالخيبة.
سيارة الحافلة تمشي، وأمي عيناها تجري في الطريق، كأنها تبحث عن شيء خلف الأفق. وضعت رأسي على كتفها، وظهرُي يؤلمني من ثقل الأيام قبل أن يأتيني عمر الطفل. شعرت أن كل خطوة تأخذ مني قطعة من طفولتي، وأنا أتمنى أن أبقى طفلاً للحظة واحدة فقط. وسألتها:
“أمي، حدّثتني عن الله كثيراً وأنه يحكم في محكمة العدالة، لماذا لا نشكو في محكمة الله؟ أبي سجين هناك، لكن جارنا أبو جمال الذي مختل عقلياً أيضاً كان مسجوناً، لماذا أخرجه الله ولم يخرج أبي؟”
لم تجب أمي. سكتُ، لكن دموعها أجابت بصوت لا يُسمع، وصراخها ظل محبوساً في صدرها. في داخلها كان ينهض صوت آخر يترجاها: أمسكي أعصابك، هناك رجال… ريثما أرجع إلى المنزل لأنتفض بالبكاء.
بعد أن خيّم الليل، عدنا إلى المنزل، ولم يعد معنا الأمل المنتصر. عند وصولنا، كان الكل مترقب عودة الألم، لكنهم لا يعلمون شيئاً. رجعنا محملين بالخيبة، وأمسكنا الصورة الممزقة لأبي؛ أطرافها تتساقط كأطراف الأمل. احتضنتها وقبّلتها قبل النوم.
تلك الليلة قررت أن أكتب رسالة: ربما تصل مع حذائه، أو يحملها جنود الله إليه. فتحت الورقة وكتبت بخط صغير:
“إلى أبي العزيز، سألت أمي عن محكمة الله لكنها لم تجبني. أتعقد أنك هناك؟ قالت إن الله عادل ولديه حنان أكثر منها. أبي… أشتاق إليك وأريد أن أراك… لكن الأكياس على ظهري صارت أثقل من طفولتي. أحلم أن تعود، تحملها عني، وتتركني أجري خفيفاً مثل الصغار، أضحك من غير أن يقيدني العطش ولا الغياب. لو مرّت يدك على ظهري الآن، يكفيني أن أشعر بأن العالم ما زال مكاناً للضحك والأمان، ولو للحظة قصيرة.
104 2 دقائق




