كتاب الخطى

مذكرات الكاتبة بلقيس (حكايات الجدران في بيت جدي)

بلقيس خيري شاكر البرزنجي
كَانَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْعُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ، عِنْدَمَا اصْطَحَبَنَا أَبِي إِلَى بَيْتِ جَدِّي فِي الْقَرْيَةِ، أَنَا وَحَنَانُ وَزَهْرَاءُ، حَيْثُ كَانَتِ الشَّمْسُ مُشْرِقَةً، وَالْهَوَاءُ يُدَاعِبُ الْوُجُوهَ بِلُطْفٍ. أَتَذَكَّرُ حِينَهَا أَنَّ عُمْرِي كَانَ تِسْعَةَ أَعْوَامٍ تَقْرِيبًا، وَكَانَ يُصَادِفُ عَامَ 2006 الْعُطْلَةَ الصَّيْفِيَّةَ مِنْهُ. أَرْتشِفُ هَذِهِ الْمَقْطَتفاتِ مِنْ ذَاكِرَتِي وَأَنَا الْآنَ أَبْلُغُ مِنْ الْعُمْرِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، كُنْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْمِلُ فِي قَلْبِي بَحْرًا مِنْ الْحَمَاسِ لِقَضَاءِ الْوَقْتِ فِي اللُّعْبِ مَعَ بَنَاتِ عَمِّي. لَا زِلْتُ أَذْكُرُ كَيْفَ اسْتَقْبَلَتْنَا الْأَعْمِدَةُ الشَّاهِقَةُ فِي بَيْتِ جَدِّي، كَأَنَّهَا حُرَّاسٌ لِلْمَكَانِ، وَحَدِيقَتُهُ الْغَنَّاءُ الْمُزْدَانَةُ بِالْأَشْجَارِ الْوَارِفَةِ الَّتِي تُحِيطُهَا أَشْجَارُ الْبُرْتُقَالِ، وَشَجَرَةُ الْوَرْدِ الْعَتِيقَةِ الَّتِي احْتَضَنَتِ الْأُرْجُوحَةَ الْحَدِيدِيَّةَ الْمَطْلِيَّةَ بِاللَّوْنِ الرَّصَاصِيِّ، وَالَّتِي كَانَتْ تَتَراقَصُ فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ كَأَنَّهَا جَوْهَرَةٌ. بَاتِّجَاهِ غُرْفَةِ الضُّيُوفِ، هُنَاكَ يَقَعُ صُنْبُورٌ يَرْتَبِطُ بِهِ خُرْطُومُ الْمَاءِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَسْحَبُ الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ وَيُخْرِجُ مِنْهُ مَاءً نَقِيًّا يَتَلَأْلَأُ فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيَمْتَدُّ الْخُرْطُومُ إِلَى حَدِيقَةِ الْبَيْتِ لِسَقْيِ أَشْجَارِ الْبُرْتُقَالِ. يَمْتَلِكُ الْمَنْزِلُ بَابَيْنِ، بَابٌ لِلدُّخُولِ مِنْ الْمَطْبَخِ وَالْآخَرُ مِنْ غُرْفَةِ الضُّيُوفِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي تَمْلَأُ جُدْرَانَهَا الْحِكَايَاتُ الصُّوَرُ الْعَائِلِيَّةُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى الْجُدْرَانِ لِجَدِّي وَمَعَهُ أَبِي وَأَعْمَامِي، وَصُورَةُ جَدِّي الْمَرْحُومِ الْمُعَلَّقَةُ فِي أَحَدِ زَوَايَا الِاسْتِقْبَالِ كَانَتْ تَرْوِي قَصَصًا لَا تُنْسَى عَنْ الْمَاضِي الْجَمِيلِ. تِلْكَ الصُّوَرُ تَجْمَعُ الْأَجْيَالَ الْمَاضِيَةَ بِالْحَاضِرِ وَتُذَكِّرُنِي بِأُصُولِي وَهَوِيَّتِي الْعَائِلِيَّةِ الَّتِي أَفْتَخِرُ بِهَا كَثِيرًا.
… ذَهَبْنَا عَصْرًا لِلْمَبِيتِ عِنْدَهُمْ لِعِدَّةِ أَيَّامٍ، لِقَضَاءِ الْوَقْتِ فِي اللُّعْبِ وَالْمَرَحِ مَعَ بَنَاتِ عَمِّي، حَيْثُ كَانَتِ الْأَجْوَاءُ مُفْعَمَةً بِالنَّشَاطِ وَالْحَيَوِيَّةِ. أَتَذَكَّرُ الْعَشَاءَ فِي ذَلِكَ الْحِينِ، عِنْدَمَا طَبَخَتْ جَدَّتِي الْبَامِيَةَ بِاللَّحْمِ وَالثَّرِيدِ، وَزَيَّنَتْهُ بِالطَّرْشِي وَاللَّبَنِ، كَمَا يَشْتَهُونَ. كَانَتْ رَائِحَةُ الطَّعَامِ الشَّهِيَّةِ تَمْلَأُ الْمَكَانَ، وَتُدَاعِبُ الْحَوَاسَّ. جَلَسَ جَدِّي شَاكِرٌ وَجَدَّتِي، وَجَلَسْنَا مَعَهُمْ أَنَا وَأَخَوَاتِي، وَبَدَأْنَا بِتَنَاوُلِ الْأَكْلِ بِحَذَرٍ، خَوْفًا مِنْ نَظَرَاتِ جَدِّي الصَّارِمَةِ. أَتَذَكَّرُ حِينَهَا، عِنْدَمَا أَرَدْتُ النُّهُوضَ مِنْ الْمَائِدَةِ أَوَّلًا، نَادَانِي جَدِّي بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ، فَارْتَجَفَ قَلْبِي، وَقَالَ: “تَعَالَيْ وَتَنَاوَلِي الْفَوَاكِهَ بَعْدَ ثَرِيدِ الْبَامِيَةِ”. وَلَاحَظْتُ ابْتِسَامَةَ جَدَّتِي.
صَعِدْتُ الدَّرَجَ، كَانَ عَمِّي الْمَرْحُومُ نُورِي قَدْ عَادَ مِنْ عَمَلِهِ فِي مَعْمَلِ الْحَصْوِ وَالْأَسْمَنْتِ، وَقَدْ أَعَدَّتْ لَهُ عَمَّتِي نِضَالُ الْبَامِيَةَ بِاللَّحْمِ وَالْأَرُزِّ، وَدَعَوْنَا لِتَنَاوُلِ الْعَشَاءِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، لَكِنِّي اعْتَذَرْتُ، وَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّنِي تَنَاوَلْتُ الْعَشَاءَ مَعَ جَدِّي شَاكِرٍ. لَا زِلْتُ أَذْكُرُ إِصْرَارَ عَمِّي نُورِي عَلَى دَعْوَتِي، فَجَلَسْتُ وَتَنَاوَلْتُ لَقْمَتَيْنِ، ثُمَّ نَهَضْتُ بِسُرْعَةٍ، فَالْأَجْوَاءُ الْعَائِلِيَّةُ الدَّافِئَةُ كَانَتْ تَفِيضُ بِالْمَحَبَّةِ.
فِي الْغُرْفَةِ الْمُجَاوِرَةِ، كَانَ يَسْكُنُ عَمِّي سَيْفٌ، وَفِي الْأَسْفَلِ، شَغَلَتِ الْغُرْفَتَيْنِ، عَمِّي عُمَرُ وَالْأُخْرَى لِجَدَّتِي، وَالْغُرْفَةُ الْأُخْرَى لِعَمِّي حَيْدَرَ. يَرُوقُ لَكَ التَّجَوُّلُ فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَهُوَ كَنْزٌ مِنْ الذِّكْرَيَاتِ، يَزْدَانُ بِأَعْمِدَةٍ شَامِخَةٍ تَجْعَلُهُ أَشْبَهَ بِقَصْرٍ مِنْ قَصَصِ أَلْفِ لَيْلَةٍ وَلَيْلَةٍ. يُحِيطُ بِالْبَيْتِ سُورٌ يَضُمُّ بَيْتَ أَعْمَامِي… كَأَنَّهُ حُضْنٌ يَجْمَعُ شَمْلَ الْعَائِلَةِ. فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْخَالِدَةِ، حَيْثُ كَانَتِ الْعَائِلَةُ تَجْتَمِعُ دَائِمًا فِي الْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَفِي الْأَيَّامِ الْعَادِيَّةِ أَيْضًا، أَتَذَكَّرُ فِي فِنَاءِ الدَّارِ لِبَيْتِ عَمِّي مُظَفَّرٍ، وَفِي وَقْتِ الْعَصْرِ كَانُوا يَغْسِلُونَ الْفِنَاءَ بِالْمَاءِ وَيُفَرِّشُونَهُ بِالْبِسَاطِ، وَتَجْلِسُ عَلَيْهِ جَمِيعُ نِسَاءِ أعَمامِي أَخَوَة أَبِي، وَيَبْدَأُونَ بِتَبَادُلِ الْأَحَادِيثِ. أَتَذَكَّرُ كَانَ وَقْتَ الْعَصْرِ وَذَهَبْتُ جَلَسْتُ أَمَامَ عَمَّتِي نِضَالٍ زَوْجَةِ عَمِّي، وَقُلْتُ لَهَا ارْبِطِي لِي شَعْرِي وَأصنعي لِي تَسْرِيحَةً… لَحَظَاتٌ عَفَوِيَّةٌ حَفَرَتْ فِي ذَاكِرَتِي بِدَقَّةٍ، هَكَذَا كَانَتِ الْعَلَاقَاتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الَّتِي انْعَدَمَتْ فِي هَذَا الْوَقْتِ. كَانَتِ الْحَيَاةُ عِبَارَةً عَنْ سِيمْفُونِيَّةٍ مِنْ الْبَسَاطَةِ وَالْفَرَحِ. كَمْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ عَفَوِيَّةً، خَالِيَةً مِنْ الْأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ! كُنَّا نَسْعَدُ بِالْعُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ، وَنَتَوَقُّ إِلَى قُدُومِ الْمَدْرَسَةِ بِفَارِغِ الصَّبْرِ، مُفْعَمِينَ بِالْحَمَاسِ وَالشَّوْقِ.
أَتَذَكَّرُ بِوَضُوحٍ الْأَطْفَالَ الْمُشَاكِسِينَ وَهُمْ يَمْلَؤُونَ سَاحَاتِ الْمُجَاوِرَةِ لِبَيْتِ جَدِّي، جَمِيعُهُمْ تَرْبِطُهُمْ صِلَةُ قَرَابَةٍ بِهَذَا الْبَيْتِ. كَانَ بَيْتُ جَدِّي يَقَعُ فِي قَلْبِ تَجَمُّعِ الْعَشِيرَةِ، مُحَاطًا بِبُيُوتِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ. ذَاتَ يَوْمٍ، انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَاطِمَةُ، ابْنَةُ عَمِّي، فِي مُغَامَرَةٍ إِلَى بَيْتِ جَدي إِسْمَاعِيلَ، ابْنِ عَمِّ جَدِّي. وَهُنَاكَ، رَأَيْنَا جَيْشًا صَغِيرًا مِنْ أَبْنَاءِ الْعُمُومَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَيَقْفِزُونَ دُونَ تَوَقُّفٍ، تَمْلَأُ ضَحَكَاتُهُمُ الْمَكَانَ. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، التَقَيْتُ بِخَدِيجَةَ، الَّتِي أَصْبَحَتْ فِيمَا بَعْدُ صَدِيقَةً عَزِيزَةً، تَجْمَعُنَا ذِكْرَيَاتُ الطُّفُولَةِ.
خَرَجْنَا بَعْدَ اللعبِ وَالْمَرَحِ، وَقَدْ غَطَّتْ وُجُوهَنَا طَبَقَةٌ مِنْ الْغُبَارِ وَالْأَتْرِبَةِ… لَكِنَّ السَّعَادَةَ كَانَتْ تَشْرَقُ مِنْ عُيُونِنَا. وَفِي نِهَايَةِ الْيَوْمِ، عُدْنَا إِلَى بَيْتِ عَمِّي، حَيْثُ كَانَ الْمَبِيتُ كَالْعَادَةِ فِي غُرْفَةِ الْبَنَاتِ بِبَيْتِ عَمِّي مُظَفَّرٍ. كَانَتِ الْأَجْوَاءُ مُرِيحَةً وَهَادِئَةً، تَعْبَقُ بِالْحُبِّ وَالْأُلْفَةِ. تِلْكَ اللَّحَظَاتُ الْبَسِيطَةُ، لَمْ أَكُنْ أَتَخَيَّلُ أَنَّهَا سَتَحْفِرُ فِي ذَاكِرَتِي إِلَى الْأَبَدِ، وَأَعُودُ لِأَدَوِّنَهَا ذَاتَ يَوْمٍ. الْآنَ، أَدْرُكُ كَمْ هِيَ ثَمِينَةٌ هَذِهِ الذِّكْرَيَاتُ. حَقًّا، سَأُدَوِّنُ كُلَّ مَا أَتَذَكَّرُهُ عَنْ طُفُولَتِي فِي مُفَكِّرَةٍ أَسْمَيْتُهَا “أَيَّامُ الطُّفُولَةِ”. لَازِلْتُ أَتَذَكَّرُ كُلَّ مَا حَدَثَ، وَأَتَمَنَّى أَنْ أَسْتَطِيعَ اسْتِعَادَةَ تِلْكَ الذِّكْرَيَاتِ الْجَمِيلَةِ دَائِمًا، لِتَبْقَى مَعِي كَكَنْزٍ لَا يَفْنَى.
وَفِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، وَأَنَا أُلَمِّمُ ذِكْرَيَاتِي الْجَمِيلَةَ فِي صُنْدُوقٍ خَاصٍّ بِهَا، أَقُولُ لِنَفْسِي إِنَّ الزَّمَنَ يَمْضِي وَالْأَمَاكِنَ قَدْ تَتَغَيَّرُ، إِلَّا أَنَّ الذِّكْرَيَاتِ الْعَائِلِيَّةَ الْجَمِيلَةَ تَبْقَى خَالِدَةً فِي قُلُوبِنَا… سَوْفَ أَحْتَفِظُ بِتِلْكَ الذِّكْرَيَاتِ الثَّمِينَةِ وَأُعِيشُهَا فِي ذَاكِرَتِي، وَأَسْتَلْهِمُ مِنْهَا الْقُوَّةَ وَالْعَزِيمَةَ لِبِنَاءِ ذِكْرَيَاتٍ جَدِيدَةٍ مَعَ زَوْجِي وَعَائِلَتِي الْجَدِيدَةِ فِي الْحَاضِرِ.

img 20250625 wa00353204419225472608964
img 20250625 wa00346259241264926739197
img 20250625 wa00328724121511303702031
img 20250625 wa00316178271239470691892

Alkhutaa News

وكالة عراقية إخبارية مستقلة شاملة مملوكة إلى «مؤسسة الخطى للثقافة والإعلام» غير التجارية. معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1933

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى