حنان سالم
يمر الصيف ثقيلًا على شمسة أحمد ذات الـ59؛ فموت الزراعة في مناطق الشبك، نظرًا للجفاف الذي حل بقريتها، حرمها من أي فرصة عمل خلال ذلك الفصل.
تعيش شمسة التي تنتمي إلى أقلية الشبك التي تتوزع في ناحية بعشيقة التابعة لمحافظة نينوى (500 كم شمالي بغداد)، على ما تجمعه من عملها في جمع الزيتون خلال فصل الشتاء فقط.
“ان لم أعمل فلن أكل”، هكذا تلخص واقعها الصعب بعد خسارتها عملها الصيفي في الزراعة.
تقول شمسة: “كنتُ اعمل في زراعة البقوليات صيفاً، لكن في السنوات الأخيرة اقتصرت الزراعة على المحاصيل الشتوية بسبب الجفاف، وحتى المحاصيل الشتوية باتت تُزرع بكميات أقل بسبب شحة الأمطار”.
وتشكو من انعدام فرص العمل الأخرى للنساء، قائلة: “يعمل الرجال في مهن مختلفة، أما النساء فليس أمامهن سوى الزراعة، لا توجد معامل أو دوائر حكومية في مناطقنا لنعمل فيها، فنحن نسكن في قرى ومجتمعاتنا محافظة”.
شمسة ليست الوحيدة، فمثلها مثل أخريات من نساء الشبك اللائي فقدن عملهن، جراء الجفاف الناتج عن تغير المناخ في العراق.
خسارة الاستقلال الاقتصادي
أمست زهرة محمد (55 عامًا) بلا عمل، بعد أن عصف الجفاف لسنوات عديدة بأرضها، وأرض زوجها الزراعية في ناحية برطلة.
تقول زهرة: “كان يومي يبدأ في ساعات الفجر الأولى، أساهم في إنجاز أعمال الزراعة والحصاد في أرضنا، وأربي المواشي، لتوفر لي ولعائلتي المواد الغذائية، وأبيع الفائض منها. أما الآن فلا زراعة ولا مواشي”.
تتحسر زهرة على خسارتها استقلالها الاقتصادي بعد فقدان عملها: “وإن كانت الأعمال التي يزاولها الرجال تعود على العائلة بمبالغ جيدة، إلا إنني كنتُ أكثر سعادة، عندما كنتُ أعمل في الأرض”.
تحمل زهرة الحكومة مسؤولية تردي واقع المرأة، قائلة: “لم يدعموننا، كل الحكومات قبل وبعد 2003، لم توفر التجهيزات الزراعية، ولم تنفذ مشروعات من شأنها أن تساهم في إحياء الزراعة في مناطقنا، لو أنهم اهتموا بالمزارعات الشبكيات لما تركن الزراعة”.
تصمت لبرهة، قبل أن تختم كلامها قائلة: “أصبحنا نخزن مياه الأمطار لاستخدامها في الأعمال المنزلية لشدة شحة المياه، فكيف لنا أن نزرع وكيف يمكننا تسويق منتجاتنا في ظل استيراد مختلف المحاصيل الزراعية؟”
لم تتعد كمية الأمطار في نينوى الـ 375 مل في أفضل حالاتها عام 2018، وبدأت بالتناقص بعد موجات الجفاف التي يعيشها ساكنوها.
من هم الشبك
يستقر غالبية مجتمع الشبك -مثلهم مثل معظم الأقليات في العراق- في سهل نينوى بين إقليم كردستان ومدينة الموصل مركز محافظة نينوى، وتقدر إحصائيات غير رسمية أعدادهم بـ 500 ألف نسمة، يعتنقون الدين الإسلامي وغالبيتهم من الشيعة.
يتحدث جزء منهم لهجة باجلانية، إحدى فروع اللغة الكورانية، وبعضهم لهجة قريبة من الهورامية.
تعرض الشبك على مدى عصور قديمة للاضطهاد، تارة من قبل الحكومات وتارة أخرى من جماعات مسلحة. وقد يكون أبرزها، محاولة نظام ما قبل 2003 إلى تغيير قسري لقومية الشبك، وتسجيلهم بصورة رسمية في سجلات الدولة العراقية، باعتبارهم عربًا.
أما آخرها فقد كان على يد تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر في 2014 على قراهم وقتل، واختطف عدداً منهم، وهجر الباقي منهم إلى مختلف محافظات العراق لمدة ثلاث سنوات.
يمتهن غالبية الشبك مهنة الزراعة منذ القدم، ويعتمدون عليها في اقتصادهم، ورغم أن المجتمع الشبكي يقع ضمن صفوف المجتمعات المحافظة التي تحكمها عادات وتقاليد تحد من حرية المرأة، إلا أن للمرأة دورًا كبيرًا في اقتصاد الأسرة الشبكية.
ويُتَرجَم هذا الدور بمشاركتها في الزراعة وتربية المواشي، وإنتاج مختلف المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية التي توفر لها الاستقلال الاقتصادي.
ثالوث العوائق
بلغت حصة محافظة نينوى 2 في المئة من إجمالي مياه العراق في 2021، وتمد إلى أراضيها الزراعية مخصصات مائية تقدر بنحو 151 مليون متر مكعب من المياه، كما ازدادت كمية التبخر في سد الموصل بمقدار الـ 50 مليون متر مكعب في 2021، عما كانت عليه في 2018.
في 2015، سقطت أمطار بمعدل 302 مل على سد الموصل، وتناقصت لتصل إلى 109 مل في 2021، وتشير البيانات إلى انخفاض إمدادات المياه في نينوى 1.2 مرة بسبب أزمة المناخ.
تأثر الإنتاج الزراعي للمحافظة بسبب الجفاف؛ فالشعير الذي أنتجت منه نينوى 1261906 طن في 2019، لم تنتج منه شيئاً العام الماضي.
تتطلب الظروف البيئية القاسية، وانحسار الاطلاقات المائية لنهر دجلة من قبل تركيا، إلى وضع الحكومة خطط تمكينية للمرأة الشبكية التي تعتمد اقتصادياً على الزراعة، إضافة الى تشريع قوانين صديقة للبيئة حسب تعبير المحامية ضحى محمود.
تقول محمود: “يفتقد العراق لقانون يدير الموارد المائية ويحافظ عليها، ما يعكس ضعفاً في حزمة التشريعات والقوانين المتعلقة بالمياه أو صيانة البيئة، رغم وجود مسودة مشروع قانون مُعطلة منذ العام 2016”
وتردف: “تضررت المرأة الشبكية -على مختلف الأصعدة- من ضعف التشريعات، وغياب خطط التمكين المرأة على مختلف الأصعدة، إذ لم تجد مورداً اقتصادياً بعد انحسار الزراعة”.
بينما يرى الخبير القانوني علي التميمي أن الخطوة الأولى، والأساس لحل أزمة المياه يتمثل في حل المشاكل الخارجية مع تركيا وإيران، بالمفاوضات أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، والاستعانة بالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، لإحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، مبيناً أنه يمكن تعديل القوانين الداخلية بسهولة.
لم تحتو الموازنة البيئية لعام 2023 على مشاريع استثمارية تخص المياه، واقتصرت على التكاليف التشغيلية، ما يوحي بعدم الجدية في مواجهة المشكلات البيئة، رغم إدراج بعض المشروعات الخاصة بالطاقة الشمسية والغاز المصاحب لاستخراج النفط، ما دعا رئيسة رابطة نساء الشبك سوريا القدو إلى وصف الخطط الحكومية لمواجهة الجفاف بـ”غير الواضحة”.
وتضيف: “لا توجد أي خطط تمكين للمرأة الشبكية، كحفر الآبار، وتوفير المرشات لغاية الآن فهي تعتمد بالأساس على الزراعة، والمياه باتت شحيحة للحد الذي أمات الزراعة لثلاثة مواسم بل حتى مياه الشرب أصبحت صعبة المنال”.
وتشير القدو الى أن العادات والتقاليد داخل المجتمع الشبكي مؤثر رئيس في الحالة الاقتصادية للمرأة، إذ تمنعها من مزاولة مهن أخرى، في ظل غياب المورد الاقتصادي الوحيد لها بعد تراجع عائدات الزراعة.
توافقها الناشطة المدنية الشبكية سراج علي التي ترى أن تجمع الشبك في قرى أدى إلى بناء عادات وتقاليد تمنع المرأة من الحصول على شهادة أكاديمية، تمكنها من امتهان مهن أخرى.
وتضيف: “المرأة الشبكية غائبة عن المناصب المؤثرة في السلك الدبلوماسي والعسكري والإعلام، لعدم امتلاكها المؤهلات الكافية لشغل المناصب المهمة، وهذا ما أدى إلى غياب الجهات التي تتبنى قضايا النساء في المجتمع الشبكي”.
وتضيف: “تساهم المرأة بشكل كبير في اقتصاد الأسرة الشبكية، وغياب التمثيل المؤثر لها في المشهد السياسي أثر سلباً فيها، خصوصاً أولئك اللواتي يعلن أسرهن”.
قرية عمر قابچي التابعة لناحية بعشيقة بتاريخ 2-8-2023
قاتلا الزراعة
يقف العراق في الخطوط الأمامية في مواجهة أزمة المناخ، فهو أحد أكثر دول العالم عرضة للتغير المناخي، بحسب تقرير مشترك بين منظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأغذية العالمي في العراق. وتم تصنيفه حسب تقرير الأمم المتحدة للبيئة العالمية باعتباره الدولة الخامسة المعرضة لنقص المياه والغذاء وارتفاع درجات الحرارة.
كما أنه من المتوقع أن ينخفض متوسط هطول الأمطار السنوي في العراق بنسبة 9 في المئة، بحلول عام 2050، ما يعني اشتداد الجفاف وزيادة فتراته، في المقابل انخفضت المياه الجوفية بشكل كبير، وازدادت أعماق الآبار بمقدار ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، منذ عام 1996، فضلًا عن انخفاض معدلات تصريف الأنهار، وازدياد معدلات التبخر، بفعل ارتفاع درجات الحرارة بمقدار أكبر من معدل الارتفاع العالمي.
أثر هذا سلباً -بشكل واضح- في الزراعة في محافظة نينوى؛ فازدياد تواتر موجات الحرارة المرتفعة ،وشحة المياه، أديا إلى احتضار الزراعة، وتجريف البساتين، وتقلص المساحات الخضراء التي من شأنها الحد من تأثيرات التغير المناخي.
و يشتغل في القطاع الزراعي قرابة الـ 20 في المئة من القوى العاملة في العراق، وهو ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بعد قطاع النفط، ويمثل 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
في المقابل يتم استهلاك ما يصل إلى 86 في المئة من الموارد المائية على الزراعة من دون أن يتحقق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، ما يعني هدرًا مائيًا لا تقابله وفرة في الإنتاج، يدلل على ذلك انخفاض قيمة الإنتاج الزراعي -بشكل واضح- في 2017 بنسبة 27 في المئة مقارنة بقيمته في 2014.
إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي للسنوات (2017-2014) (مليار دينار)
ويرجع الخبير الزراعي عادل المختار ذلك إلى اعتماد العراق على تقنيات ري بدائية تهدر المياه، قائلاً: “طرق الري السيحية تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، إذ تستهلك مياه بمعدلات أكثر من 40 ضعفاً مما تستهلكه طرق الري الحديثة. هذه الطرق غير ملائمة لوضع العراق المائي، في ظل تراجع مناسيب المياه وأزمة الجفاف العالمية”.
ويشدد الخبير الزراعي على ضرورة إعادة النظر في السياسية الزراعية، والتوجه نحو الزراعة الذكية، وأساليب الري الحديثة؛ لتوفير فرص عمل، وتحسين الاقتصاد، في إشارة منه إلى أن مشكلة الزراعة في العراق لا ترتبط بتوفر المياه فقط، بل بمستلزمات الإنتاج والتسويق، والظروف القائمة على الأرض.
تلكؤ مشاريع ري الجزيرة
في الستينيات من القرن الماضي، تم التخطيط لمشروعات ري الجزيرة الثلاثة: الشمالي، الشرقي، الجنوبي، لخدمة الزراعة في محافظة نينوى.
نُفذ الجزء الشمالي من المشروع خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتم تشغيله بطاقته القصوى سنة 1995، وهو مصمم لري 240 ألف دونم من الأراضي الزراعية عبر قناة تمتد من بحيرة سد الموصل (35 كيلومترًا شمالي الموصل)، ليمر بمناطق ناحيتيّ زمار وربيعة غربي نينوى، على امتداد الشريط الحدودي بين العراق وسوريا، لكنه توقف عن العمل بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل في حزيران/يونيو 2014.
تبنت بعدها منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) إعادة تأهيل مشروع ري الجزيرة الشمالي بالتنسيق مع وزارة الموارد المائية العراقية، بعد طرد “داعش” من المنطقة في 2017، وتم افتتاحه مجدداً في أيار/مايو الماضي.
يهدف الجزء الشرقي من المشروع إلى ري 240 ألف دونم، وهو يمتد من بحيرة سد الموصل، ويتجه شرقاً عبر سهل نينوى في قضاء تلكيف وناحيتي برطلة وبعشيقة، وصولاً إلى قضائي الحمدانية والنمرود، وهي مناطق تواجد الشبك وباقي الأقليات، وتتميز أراضيها بالخصوبة، ما يرفع سقف التوقعات من أن يؤدي إنجاز المشروع وتشغيله إلى زيادة الإنتاج الزراعي.
وقعت وزارة الموارد المائية عقد تنفيذ الجزء الشرقي من المشروع سنة 2009 مع شركة آيدن إنيرجي التركية وشركة زيرك العراقية ومقرها أربيل، وكانت أعمال تنفيذه تجري على قدم وساق قبل أن يسيطر داعش على الموصل في 10 حزيران/يونيو 2014، وبكلفة تقارب الـ 62 مليار دينار، لكنها إلى الآن لم تصل إلى 40 في المئة.
أرجع المهندس المقيم في مشروع ري الجزيرة الشرقي خالد الحسو عدم إتمام المشروع إلى خلافات وقعت بين الشركتين المنفذتين له، قائلًا: “حالت الخلافات بين الشركتين دون استئناف العمل بعد تحرير الموصل في 2017، وتسببت بأضرار جمة بالمشروع والمزارعين، بسبب تأخر تنفيذه خصوصاً وأنه مشروع ذو أهمية عالية تمس الأمن الغذائي في العراق”.
ويستأنف: “منذ وقت قريب من هذا العام ارتأت الوزارة اخيراً فسخ العقد مع الشركتين، وعهدت بالمشروع إلى شركة تابعة لها”.
إهمال المشروع
اتهم الناشط المدني سعد الشبكي الجهات المسؤولة بإهمال الزراعة في المناطق التي يغذيها الجزء الشرقي من المشروع، قائلاً: “لم يسلم شيء في هذا البلاد من الفساد والإهمال، ويقع الضرر الأكبر على المزارعين الذين باتوا بلا مورد اقتصادي. هل يجب أن ننتظر خمس سنوات للتحرك نحو تنفيذ مشروع مهم كهذا؟ ماتت الزراعة قبل أن يتحركوا لإنقاذها”.
ظل الجزء الجنوبي من المشروع حبراً على ورق الانتظار، منذ أكثر من ثلاثة عقود، رغم أهميته المتمثلة في أنه يغطي مساحة 240 ألف دونم من الأراضي الزراعية، ويمتد من ناحية المحلبية (35 كيلومترًا غربي الموصل) إلى جنوب قضاء تلعفر، وينتهي في ناحية تل عبطة (73 كيلومترًا جنوب غربي الموصل).
فيما يعزو النائب السابق في البرلمان العراقي عن مكون الشبك قصي عباس، التلكؤ في إنجاز مشروع ري الجزيرة إلى ضعف القوى السياسية التي تمثل الأقليات، ومن ضمنها الشبك، وغياب الأحزاب -ذات التأثير في المشهد السياسي- التي يمكن أن تتبنى قضاياهم، ما يسبب إهمالاً لتنفيذ المشروعات التي تخدمهم.
ويضيف قائلاً: “عدم إيفاء حكومات ما بعد 2003 بوعود إكمال الجزء الشرقي من مشروع ري الجزيرة الذي من المفترض أن يمر بمناطق سهل نينوى، وأزمة المياه في العراق التي تسببت فيها دول الجوار، ساهما بشكل كبير في التأثير في الزراعة، وتربية المواشي في مناطق الشبك؛ وبالتالي تأثرت المرأة الشبكية بشكل خاص والشبك عمومًا”.
بعد فوات الأوان
يرى بعض الخبراء أن المشروع المصمم لري مئات آلاف الدونمات، لم يعد مجدياً بتصاميمه القديمة بسبب قلة واردات المياه من تركيا وبالتالي قلة المخزون في بحيرة سد الموصل التي يأخذ المشروع مياهه منها.
يُذكر أن كمية مياه نهر دجلة الواردة إلى العراق عند الحدود التركية في 2009 بلغت 47.69 مليار متر مكعب، أما في 2020 فقد بلغت 29.39 مليار متر مكعب.
ويرجع الخبير المائي رمضان حمزة صعوبة إكمال المشروع إلى عدم استقرار المنطقة سياسياً، والتكلفة العالية للمشروع التي تطلبت جهوداً دولية لإنجاز جزء واحد منه.
يقول عن ذلك: “يحتاج تنفيذ المشروع الى إمكانات قد لا يملكها العراق؛ مثل: التعاقد مع الشركات المنفذة وتوفر الأموال والإستراتيجيات، كما يحتاج إلى مفاوضات مع تركيا لإطلاق أكبر للمياه؛ فخزين سد الموصل لا يسد حاجة المشروع، وإذا تم تنفيذه بالكامل، فلن تصل قطرة مياه واحدة من السد إلى وسط العراق وجنوبه”.
تبلغ الطاقة الاستيعابية لسد الموصل 8 مليار متر مكعب من الماء، إلا أنه الآن لا يحتوي على أكثر من 4 مليارات متر مكعب من المياه.
ويشدد الخبير المائي على ضرورة إعادة النظر في الاستراتيجيات الحكومية اتجاه المياه والسير بجدية نحو الامام في ملف المياه مع تركيا، كما يصف ادعاءات المسؤولين بإمكانية حل ازمة الزراعة في سهل نينوى بتنفيذ مشاريع اروائية ب “كلام للإعلام” ينافي الواقع الذي يحتاج الى رسم خطط جديدة تناسب الظروف البيئية والسياسية الحالية.
صراعات وتغييرات ديموغرافية تلوح في الأفق
تتميز محافظة نينوى بحوض زراعي خصب؛ فهي “سلة خبز العراق”، لما تنتجه من قمح وشعير، ويمتاز سهل نينوى الذي تتمركز فيه العديد من الأقليات الدينية والاثنية، ومن ضمنهم الشبك، بإنتاج مختلف المحاصيل الشتوية التي تعتمد على الأمطار، أما المحاصيل الصيفية، فقد توقف إنتاجها بشكل شبه تام، بسبب تراجع الحصص المائية للمواطنين والأراضي الزراعية.
نصيب الفرد من واردات نهري دجلة والفرات وروافدهما للسنوات المائية 2009-2021
وبحسب البنك الدولي، فقد ساهمت النزاعات المسلحة في منع أكثر من 40 في المئة من المزارعين من الوصول إلى مصادر الري، بحلول عام 2014 الذي شهد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على ثلث مساحة العراق.
الباحث في شؤون الصراعات آلان ممتاز، أكد أن احتمالية نشوب المزيد من النزاعات المسلحة في بيئة متدهورة مائياً كسهل نينوى، عالية.
ويشير ممتاز إلى أن انفلات السلاح، وتواجد الجماعات المسلحة في عموم العراق، عامل رئيس في تأجيج الصراعات، ويرجع ذلك إلى ضعف القانون، وعدم تطبيقه في اغلب مناطق العراق، قائلًا: “فشل القانون يحفز نشوب نزاعات مسلحة عنيفة، تحركها ندرة الأراضي الصالحة للزراعة وشحة المياه”.
يخالفه في الرأي الخبير في شؤون التنوع الديني في العراق سعد سلوم، إذ يرى أن الشبك متمسكون بمناطقهم حتى في ظل ظروف بيئية قاسية، ويردف قائلًا: “من الصعب تخيل نزوح الشبك بسبب الجفاف. ورغم أن الاقتصاد الشبكي يعتمد على الزراعة في الأساس، فإن الكثير منهم انخرطوا في أعمال أخرى كالتطوع في صفوف القوات الأمنية، والتجارة البرية، وتسمين العجول”.
هجرة الأرض والزراعة
زبيدة محمد ذات الـ 60 عاماً ترفض ترك أرضها في قرية الفاضلية التابعة لناحية بعشيقة، رغم الجفاف، وتدهور الزراعة فيها لعدة مواسم.
وتقول والحسرة تغلف صوتها: “كنا نعتمد على الأمطار في زراعة مختلف المحاصيل، كما أن المياه كانت متوفرة في الأنهار والآبار، أما الآن فالجفاف دمر أراضينا”.
وتشكو غياب الدعم الحكومي عن النساء المزارعات اللواتي يعتمدن على الزراعة في معيشتهن، وعدم توفير الحكومات إلى مرشات وآبار ومشروعات ري.
إثر ذلك، تركت زبيدة الزراعة في أرضها، واتجهت إلى الإشراف على عاملات في أراضٍ قريبة من مصادر المياه، “أصبحت الزراعة مكلفة في الأراضي البعيدة عن نهر دجلة، ولا تكفي لسداد تكاليفها التي أُثقلت بتكاليف نقل المياه من أماكن بعيدة؛ لذا ترك أغلب المزارعين ومن ضمنهم أبنائي الثلاثة مهنة الزراعة، واتجهوا إلى ممارسة أعمال أخرى”.
اتجه أبناؤها إلى العمل في السلك العسكري وأعمال البناء، فباتت أياديهم تحمل السلاح والجرادل، بعد أن كانت تحصد لسنوات مختلف المحاصيل الزراعية.
صورة من قرية الفاضلية بتاريخ 2-8-2023
بالرغم من تمسك زبيدة ومثيلاتها بأراضيهن إلا أن المنظمات الدولية بينت حجم المشكلة، فتقرير اليونسكو أوضح أن أكثر من 100 ألف من سكان شمالي العراق اضطروا إلى النزوح من مساكنهم، بسبب النقص الحاد في المياه منذ عام 2005، ولا يختلف الوضع في وسط وجنوبي العراق؛ فتقرير منظمة الهجرة الدولية أورد نزوح أكثر من 21 ألف شخص من تسع محافظات في وسطى وجنوبية، بسبب شح المياه في 2019، إضافة إلى نزوح 20 ألف شخص من التجمعات التي تعيش على الأراضي الزراعية في العام 2012.
يعزز هذا من احتمالية حدوث نزوح من مناطق الشبك التي تعاني من الجفاف، فيما تظل المرأة الشبكية هي المتضرر الأكبر من هذا الجفاف، بعد أن فقدت أرضها الزراعية التي تمثل مصدر استقلالها الاقتصادي.
(تم انتاج هذا التقرير ضمن اطار مشروع أصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز.)