كتاب الخطى

المرأة في العصر العباسي ما بين الحريم والقوة الناعمة

بقلم: نجوان حكمت
مقدمة
حين نتأمل العصر العباسي، سرعان ما نستدعي صور القصور الفخمة، والمجالس الشعرية، والعلماء الكبار الذين أثروا الحضارة الإسلامية. لكن خلف هذا المشهد الذهبي، تقف المرأة بصمتها العميقة، التي لم تكن دائمًا مرئية، لكنها كانت مؤثرة.
فالمرأة العباسية عاشت بين عالمين: عالم الحريم، الذي قُيّدت فيه حركتها باسم العرف أو الدين، وعالم آخر مارست فيه قوة ناعمة غير رسمية، أثّرت من خلاله في السياسة، والفكر، والثقافة.

*مؤسسة “الحريم” عزل أم سلطة
1. الحريم كظاهرة بلاطية

في بلاط الخلفاء العباسيين، كان الحريم نظامًا متبعًا يُفصل فيه النساء عن الرجال الغرباء، ليس فقط لحماية النساء، بل لحماية الحكم نفسه.
كان الحريم يضم:
•الزوجات، وهن غالبًا من أسر نبيلة أو حليفة.
•الجواري، ممن أتين من الأندلس، فارس، الروم، وبلاد الترك.
•المربيات والوصيفات، وكن يُشاركن في تربية أولاد الخلفاء.
كان الحريم مقرًّا لعزلة ظاهرية، لكن في داخله كانت تُنسج خيوط من النفوذ والدسائس والقرارات.
2. زبيدة بنت جعفر: مثال على سلطة داخل الحريم

كانت زوجة هارون الرشيد، ومن بنات عمومته. لم تكن مجرد زوجة، بل سيدة قوية، نفّذت مشاريع ضخمة مثل:
•شق طريق الحج (عين زبيدة).
•التأثير في اختيار ولاية العهد بين الأمين والمأمون.
وقد روى المؤرخون أنها كانت تُسيّر مجلسًا خاصًا، يحضره بعض الكتّاب والمستشارين في شؤون الدولة.

*الجواري المثقفات من الغناء إلى التأثير

1. الجارية القارئة والكاتبة

بعض الجواري لم يكنّ مجرد أدوات متعة، بل كنّ:
•يحفظن الشعر الجاهلي.
•يقرأن القرآن والحديث.
•يجادلن فقهاء وأدباء المجلس.

2. عريب المأمونية: قينة السلطة والثقافة

هي جارية مشهورة للمأمون ثم المتوكل، وبلغ تأثيرها أنها:
•كانت تجلس في مجالس الغناء مع كبار الشعراء.
•نظم الشعراء لها المدائح.
•نقل عنها المؤرخون أخبار البلاط من منظور نسائي.

لم يكن تأثيرها مباشرًا على القرار السياسي، لكنه أثّر في مزاج الخلفاء وميلهم، وهي أداة قوة في نظام استبدادي يُحكم بالمزاج كما يُحكم بالقوة.
*المرأة العالمة نور في العزلة

1. التعليم غير الرسمي

في مجتمعٍ يغلب عليه الذكور، كانت النساء يتعلمن في:
•البيوت على يد آبائهن أو أمهاتهن.
•المساجد، من خلف حجاب أو عن طريق الرواية.
•المدارس الخاصة ببعض الأسر الثرية.

2. أسماء لامعة
•زينب بنت أحمد بن علي: راوية للحديث شارك في مجالسها كبار العلماء.
•أم محمد بنت أحمد: شاركت في علم القراءات.
•رابعة العدوية: صوفية، كان لها فلسفة دينية تجاوزت عصرها، وظهرت كصوت نسوي مستقل في الفكر الإسلامي.

*المرأة في الأدب العباسي صورة بين الحُسن والسيطرة

1. المرأة كمُلهمة في الشعر

يُظهر الشعر العباسي المرأة على أنها:
•معشوقة مستعصية.
•أداة فتن سياسية.
•رمز للجمال والفتنة واللذة.

2. صوت المرأة في الشعر

قليل، لكنه موجود. هناك بعض الشعر المنسوب إلى جوارٍ، منهن من قلن شعرًا فيه حكمة، وسخرية، وحتى نقد اجتماعي مبطن.
وإن كان أغلبه ضاع في زحمة التاريخ الذكوري، فإن ما بقي منه يؤكد أن المرأة لم تكن مجرد موضوع أدبي، بل صانعًا له أحيانًا.

*بين الدين والتقاليد هل كان الحريم واجبًا دينيًا

الحقيقة أن الكثير من القيود المفروضة على النساء العباسيات لم تكن ذات أصل شرعي مباشر، بل:
•تقاليد فارسية وبيزنطية تسللت إلى البلاط.
•حُسن التأويل لبعض النصوص الدينية.
•الرغبة السياسية في ضبط الأسرة الحاكمة ومنع الفتن من داخلها.

وقد وُجدت نساء عبديات رفضن هذا القيد أو تجاوزنه، وإن كان ذلك بشكل غير معلن

خاتمة

كانت المرأة في العصر العباسي تعيش في حالة من التوتر بين القيد والانفتاح، بين التهميش الرسمي والتأثير الحقيقي.
لم تكن قابعة في الظل كما يُصوّرها البعض، بل مارست دورًا صامتًا لكنه فعّالًا.
بين جدران الحريم، ومن خلف الأستار، كانت تصنع قرارات، وتبني صورًا ذهنية، وتؤسس ثقافة.
ولعل هذا ما يجعلها واحدة من أكثر الشخصيات التاريخية إثارة للتأمل في زمنٍ تتقاطع فيه السلطة مع الجنس، والدين مع السياسة

المصادر :.
1-الطبري، محمد بن جرير – تاريخ الأمم والملوك.
2-المسعودي، علي بن الحسين – مروج الذهب ومعادن الجوهر.
3-ابن خلدون – المقدمة
4-عبد الحليم عويس – المرأة في التاريخ الإسلامي.

Alkhutaa News

وكالة عراقية إخبارية مستقلة شاملة مملوكة إلى «مؤسسة الخطى للثقافة والإعلام» غير التجارية. معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1933

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى