كتاب الخطى

من قتل بان؟ سؤال يتيم في قاعة العدالة

بقلم: نجوان حكمت
في البصرة، على ضفاف شط العرب، وُجدت جثة شابة في ربيع العمر، ترتدي معطف الطب الأبيض في صورها، وتحتفظ في عينيها ببريق من يداوي جراح الآخرين، بينما تخفي بين أضلاعها أوجاعها الخاصة. كانت الدكتورة بان زياد طارق طبيبة نفسية، تحلم بمستقبل يمتد خارج حدود العراق، لكن النهاية جاءت فجأة، في شقة صامتة، وملابسات صاخبة.
وفاتها لم تكن مجرد خبر عابر على صفحات الأخبار، بل تحوّلت إلى مرآة عاكسة لأسئلة موجعة: من قتل بان؟ وإن كانت قد رحلت بيدها، فما الذي دفعها إلى ذلك؟ وإن كان أحدهم قد أطفأ أنفاسها، فمن يحمي القاتل من عدالة الأرض؟

*بين الروايات تضيع الحقيقة

السلطات تحدّثت عن “انتحار”، وأشارت إلى رسالة بخط يدها تقول: “أريد الله”. لكن الجسد لا يكذب، والجروح والكدمات التي شوهدت على عنقها ووجهها وذراعيها أشارت إلى قصة أخرى. الأطباء الذين رأوا الصور تحدّثوا عن إصابات لا تتوافق مع رواية الانتحار، وأصوات المجتمع ارتفعت مطالبة بتحقيق شفاف، لا يطويه النسيان كما طويت قضايا كثيرة قبلها.
وبين هذا وذاك، برزت روايات عن ضغوط العمل، وعن بيئة مهنية تستهلك الروح قبل الجسد، وأخرى عن خلافات عائلية أو شخصية، لكن جميعها بقيت مجرّد ظلال على جدار الحقيقة.


*المأساة التي تكشف ما وراءها

مقتل بان  أو انتحارها ليس مجرد واقعة جنائية، بل هو ملف اجتماعي مكشوف على الملأ. إن كانت قد قُتلت، فذلك يعني أننا أمام منظومة تسمح للجريمة أن تقع في قلب بيت أو مستشفى أو شارع، دون أن تردع يدًا أو تحمي ضحية. وإن كانت قد انتحرت، فذلك يفضح هشاشة الدعم النفسي والاجتماعي حتى لأولئك الذين يملكون المعرفة لعلاجه، ويضعنا أمام سؤال قاسٍ: إذا كانت الطبيبة النفسية لم تجد من ينقذها، فكيف بغيرها؟

*العدالة المفقودة والثقة الممزقة

القضية كشفت أزمة أعمق من موت شخص، إنها أزمة ثقة بين المواطن ومؤسسات العدالة. الناس لا يصدقون الروايات الرسمية بسهولة، لأنهم شاهدوا مرارًا كيف يُطوى الملف قبل أن يجف الدم، وكيف تُحوَّل المأساة إلى خبر ميت بلا أثر.
بان، في موتها، أطلقت نداءً أبعد من حياتها: نداء لعدالة شفافة، ولإرادة سياسية تحمي الضعيف قبل أن تتحرك لحماية الأقوياء.


*البعد السياسي والقانوني للقضية

لا يمكن النظر إلى قضية بان بمعزل عن المشهد العراقي العام، حيث يتقاطع الضعف المؤسسي مع نفوذ القوى الاجتماعية والسياسية، فتتحوّل العدالة أحيانًا إلى ساحة مساومات بدل أن تكون ميزانًا للفصل بين الحق والباطل.
التحقيقات في مثل هذه القضايا تواجه ثلاث معضلات كبرى:
1.غياب الاستقلالية التامة للأجهزة التحقيقية، إذ قد تتأثر القرارات بعلاقات شخصية أو ضغوط سياسية أو عشائرية.
2. ضعف منظومة حماية الشهود والخبراء، مما يجعل من الصعب تقديم شهادات حاسمة دون خوف من الانتقام.
3. ثقافة الإفلات من العقاب، التي ترسخت عبر سنوات من غياب المحاسبة الفعلية، حتى بات المجرم يراهن على النسيان أكثر مما يخشاه من القانون.

*أما على الصعيد الاجتماعي، فالقضية تُعيد طرح إشكالية العنف الموجّه ضد النساء، سواء كان جسديًا أو نفسيًا أو مهنيًا، وكيف أنّ كثيرًا من الحالات لا تصل إلى العلن إلا بعد أن يفوت الأوان. بان، كونها طبيبة نفسية، كانت تعرف جيدًا لغة الألم، لكن معرفتها لم تكن كافية لصدّ الخطر عنها. وهذا في حد ذاته فضيحة صامتة للنظام الصحي والاجتماعي، إذ لم يوفر حتى للعاملين فيه بيئة آمنة.
*القانون العراقي يمتلك مواد قادرة نظريًا على التعامل مع هذه القضية بصرامة، لكن المشكلة ليست في النصوص، بل في إرادة التطبيق، وفي شجاعة فتح الملفات دون خشية من الأسماء التي قد ترد فيها. إن الحقيقة في قضية بان، أياً كانت، لن تُقيم العدل ما لم تُترجم إلى محاسبة حقيقية، تكسر الحلقة المفرغة التي تبدأ بالجريمة وتنتهي بالتقادم.

صرخة صامتة في وجه النسيان

ربما لم تكن بان تتوقع أن يتحوّل صمتها الأخير إلى ضجيج في الشوارع وعلى المنصات، وربما لم تكن تدري أن صورتها بملامحها المرهقة ستصبح أيقونة لآلاف النساء اللواتي يعشن خلف جدران الخوف. رحيلها أشبه بجرس إنذار يذكّرنا أن الأرواح الهشّة لا تحتاج دائمًا إلى رصاصة أو سكين لتسقط، أحيانًا يكفيها تجاهل، إهمال، أو يد تُترك وحيدة في العتمة.
بان لم تكن تبحث عن شهرة أو بطولة، كانت فقط تريد أن تمارس الطب، أن تعيش بسلام، وأن تكون إنسانة في عالم يتقن تجريد الناس من إنسانيتهم. موتها ليس قصتها وحدها، بل قصة كل من تُرك بلا حماية، وكل من صرخ في داخله ولم يسمعه أحد.

رحلت بان، لكن الأسئلة باقية: هل سنعرف يومًا كيف ماتت حقًا؟ هل سينال الجاني  إن وُجد عقابه؟ أم ستبقى الحقيقة في ملفات مغلقة، لا تُقرأ إلا حين يفتحها جيل آخر، في بلد آخر، بعد أن يكون الزمن قد ابتلع الأسماء والوجوه؟

موت بان ليس نهاية القصة، بل بدايتها. البداية التي تقول لنا إن حياة إنسان واحد، وظلمًا واحدًا، كافيان ليختبر المجتمع كله: هل نحن حقًا أمة تحفظ كرامة أبنائها، أم أننا نكتب أسماءهم على شواهد القبور ونمضي؟

Alkhutaa News

وكالة عراقية إخبارية مستقلة شاملة مملوكة إلى «مؤسسة الخطى للثقافة والإعلام» غير التجارية. معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1933

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى