كتاب الخطى

طفولتي في ذلك الحي العتيق بالأسود والأبيض

بلقيس خيري شاكر البرزنجي
محافظة السليمانية أقليم كوردستان العراق.
أتذكر جيدًا ذلك الحي العتيق، حيث تتراص البيوت جنب بعضها، حيٌ كبير يمتد في الطول والعرض، لا يزال طيفه يسكن ذاكرتي. برغم أنني غادرته في السادسة من عمري، إلا أن مقتطفات الطفولة فيه ما زالت عالقة، تأبى أن تُمحى.
كانت صديقتي المُقربة، غفران إبنة عمي، رفيقة أيامي الجميلة. كنا نقضي أجمل الأوقات في بيتنا، نلهو ونلعب. تحضر هي دميتها، وأحضر أنا دميتي، ولا زلت أذكر تفضيلي لفستان أحمر لدميتي، كانت تخيطه لي أمي. نصنع سريرًا من الكرتون لدميتنا، وتخيط لنا أمي وسادة صغيرة بأيديها. أتذكر بكائي عندما اقتلعت غفران رأس دميتي، وتخاصمنا لحظات، بريئة كأحلام الطفولة. كنا نجتمع من أجل الدمى، ونتخاصم لأجلها، كأننا نعيش في عالم خاص بنا.
أتذكر عندما ذهبنا لشراء الحلوى من دكان أبو فراس، وركضنا حتى سقطتُ أرضًا، والتوى كاحلي. كان الديك ذو الريش الملون المشاكس يركض خلفنا، كأنه جزء من مغامراتنا. لا تزال عالقة في أنفي رائحة حساء الرز الذي كانت تعده أمي لي ولأبنة عمي. كانت صديقة طفولتي، وكل لحظاتي كانت معها. كنا نخشى ذلك المجنون الذي يتمشى في الفرع كل يوم، ويسألنا: “هل تناولتم البامية على الغداء؟” كنت أختبئ تحت سريري عندما أراه، وقلبي يخفق بعجب.
كانت سعادتي تكتمل بزيارة أحد من خوالي لنا. كانت سعادتي تكمن في ربع دينار ونصف دينار يعطيها لي أبي في العصر: ربع لي، ونصف لأختي. لا يزال عالقًا في أذني صوت سبيستون، ونشيد فيلم الكارتون “أصحابي تعالوا
في رحلة جميلة مع الأيام ،تعالوا،في كل يوم ينقضي لنا اهتمام”. كنت أستيقظ باكرًا لأشاهد هذا الكارتون، بينما تداعب رائحة البيض الذي تعده أمي أنفي. كان أصعب ما أحمله من هم، أن أرى جيري يهزم توم، فقد كنت أتعاطف مع جيري دائمًا، وأن أشاهد برنامج قصص الأطفال في التاسعة مساءً.”تفيضُ عينيّ دمعًا، وأنا أراقب أختي تنطلق نحو المدرسة مع رفيقاتها، بينما لا يزال الوقتُ مُبكراً عليّ. كان أخي محمد، بقلبه الكبير، يُقنعني بأن أحمل حقيبته، ويحملني على ظهره إلى نهاية الطريق، ثم يعود بي إلى المنزل، مُرددًا: “الطريقُ مُغلق، غدًا نذهب إلى المدرسة”.
كانت دموعي تتساقط كلما رأيتُ أسراء ابنة الجيران تزداد طولًا، فأهرعُ إلى شرب سبعة كؤوس من الحليب، وأنا أُردد: “أريد أن أُبرحها ضربًا لأنها أصبحت أطول مني!” كانت همومي بسيطة، وأحلامي عفوية، ولم أكن قد بلغت السابعة بعد، لكنني ما زلتُ أذكرُ بوضوح ذهاب أختي الكبرى إلى بيت الجيران ظهرًا دون علم أمي، فأذهبُ مُسرعًا لأناديها، خوفًا من أن تُحاسبها أمي.
كنتُ أنتظر العيد بفارغ الصبر، وأطلب من أبي الملابس الجديدة، ثم أخفيها خوفًا من العيد نفسه، ولا أرتديها إلا في يوم العيد. كنا نخشى غضب العيد، ونخفي ملابس العيد في الأيام العادية.
في أحد الأيام، رأيتُ نساء الحي يهرعن إلى أمي وهن يبكين. لم أكن أعرف ما بهم، كنتُ فقط أراقب كل شيء بعيوني الصغيرة. سمعتُ أمي تقول: “سنرحل من هذا المنزل”. أتذكرُ ذلك جيدًا، لقد حُفر في ذاكرتي، بالرغم من أنني لم أبلغ السابعة عندما انتقلنا منه. كان يمتلك فناءً واسعًا، بجانبه حديقة مليئة بأشجار التين والتوت. وضع أبي مُبردة الهواء قرب شجرة التين. أرى نافذة غرفة الضيوف تطل على الفناء، ويقع المطبخ في نهاية البيت. كان يحتوي على طابق آخر أيضًا، غرفة فوق. كنتُ أصعد أنا وابنة عمي إليها دائمًا، نصدر أصواتًا فيتردد صداها في المنزل. نلعب لعبة الطبيب والمريض، وتمثل إبنة عمي دور الطبيبة. وبالفعل، أصبحت طبيبة بشرية الآن، لكنني لا أعلم أين أخذت بها الأيام، فقد انقطع تواصلنا منذ سنين مضت.
ما زلتُ أذكر الديك الأبيض المشاكس، الذي رعاه أخي محمد في علية المنزل المهجورة. كان يكبر، يكبر، حتى غدا وحشاً أبيض، قبل أن يضع أبي حدًا لطغيانه.
وفي توقيت العصر، كانت تتراقص الشمس على وجوهنا ونحن نخرج للعب. جارتنا أم رافد، المرأة السمينة التي تجلس أمام باب دارها، تبيعنا حبّ الشمس الساخن بدرهم، ملفوفًا في ورقة على شكل مثلث. ما زلت أذكر رائحة الحب المحمّص التي كانت تداعب أنوفنا، فنجري نحو أمي لأنتزاع دريهمات، ونعود محملين بمتعة الطفولة.
أطفال الحي، شياطين مشاكسون، لا يتركون طفلًا يمر دون أن ينهالوا عليه بالضرب. أما خياطة الحي أم نجم، فكانت يدها ماهرة في حياكة الفساتين لي ولأخواتي.
أرتدي فستاني الأحمر الذي خاطته لي أم نجم ،في لحظة أركضُ في دروب الحي، أُسابقُ الهواءَ، وكأنني أداعب القدر. وبينما كانت قدمي تلامس الأرض، شعرتُ بوخزة عجيبة، وكأنَّ الزمنَ قد توقفَ فجأة. كلُّ شيءٍ حولي تحوَّلَ إلى لوحةٍ بالأبيضِ والأسود، عالمٌ صامتٌ يسوده السكون وكأن شريط الفلم قد توقف.عندما استعدتُ وعيي، وجدتُ نفسي في عمرِ السابعةِ والعشرين، وكلُّ ما حولي يشي بالاستقرارِ والهدوء. نظرتُ حولي بدهشة، لأجدَ نفسي متزوجةً الحمد الله، وكلُّ أحلامِ الطفولةِ قد حلقت بأجنحتها البيضاء ذكرياتي، تلك الكنوز الثمينة، أودعتها صندوقًا خشبيا وأغلقت عليه بمفتاح جدتي. سأكتبها قصصًا لأحكيها لأطفالي يومًا ما أن شاء الله تعالى.فارسُ أحلامي، الذي طالما حلمتُ به، يطلُّ عليَّ من بعيد، آتياً من أعالي الجبال﴿ أميري الكوردي الأشقر ﴾تبسمتُ، وعرفتُ أنَّ هذه اللحظةَ هي تتويجٌ لكلِّ ما مضى، وأنَّ السعادةَ الحقيقيةَ تنتظرُني في حياتي الحالية والحمد الله.

Alkhutaa News

وكالة عراقية إخبارية مستقلة شاملة مملوكة إلى «مؤسسة الخطى للثقافة والإعلام» غير التجارية. معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1933

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى